السبت، 1 يوليو 2017

هروب - قصة قصيرة-

"هروب"


 ؟؟؟؟:


لا أعرف كم مضى من الوقت منذ أن ابحرنا، فقد اختلط الليل عندي بالنهار، لم يعد بوسعي أن أخمنّ، لكننا مُنذ أن ابحرنا قد فقدنا الكثير مِنا، ولم يتبقى أكثر من تسعة أشخاص على الأقل. كان القارب ضيق وبالكاد حشرنا فيه، لا اعرف كم هي مساحته، لكنه ضيق جدًا، وكنا نخاف الغرق ولم يكن لدينا وسيلة أخرى للهروب بها، وبسبب البرد القارص وخاصة خلال أوقات الظلام، لم يستطع بعضنا التحمل وصِرّنا نفقد الشخص تِلوى الأخر من دون قدرتنا على فعل شيء.
 وصلنا إلى الشاطئ ليلًا، وكنا نرتجف جميعنا من البرد ولم تكنّ تصدّر عنا سوى طقطقت اصتكاك الاسنان وصوت الأنفاس المثقلة والباردة. حين لم يتبقى سوى قليلًا من الخطوات نحو الشاطئ، قفزتّ فتتان وواحد من الرجال خارج القارب وجروا بسرعة مبتعدين عنه. حين كنت لا أزالني على القارب، راقبتُ الاخرين يجرون على الرمل، ويقعون دائخين عليه، فأقدامهم لم تمس الأرض منذ أيام، بالإضافة لأننا لم نتناول شيئًا منذ الأيام الاولى لرحلتنا عبر البحر، مع ذلك بعضهم بدأ بالقيء وافراغ عصارات معدته الخاوية.
نزلتُ من القارب بأقدام ترتجف، وسرعن ما استلقيت بطولي فوق الرمل، واخدت أتنفس الهواء العليل بعد أن نزعتُ حذائي المبلل والبالِي وجففت قدماي بأكمام قميصي.
 لا أعرف أين وصلنا، لكنها كانت شواطئ مدينة ما. رأيت جدارًا اسمنتي يحيط بطول الشاطئ ممتدًا إلى النهاية ويحجبه عن الطريق، حيث اصطفت خلفه الفيلات الصغيرة والبيوت.. كان المكان هادئ للغاية، ولا تُسّمع فيه إلا أصوات مواء القطط البعيدة أو نباح الكلاب، لم يكن هناك أصواتًا للمركبات، أو المصانع، أو ضوضاء البشر.. مما يعني أن جميع سكان هذه المدينة مستغرقين في النوم الأنّ، وكان ذلك لحُسِن حظنا.
في الدقائق التالية، بعد أن استعاد الاغلبية عافيتهم وتركيزهم، وقفنا منتظرين أمرًا من قائدنا. الحقيقة هو ليس قائدنا فِعليًا، ولكن بحكم أنه الأكثر شجاعة وجراءة فينا. فمنذ لحظة صعدونا القارب، قد صار الشخص المسؤول عن قيادتنا. أنا لا أعرف أسمه، وهذا مضحك، قضينا أيامًا طويلة سويًا على القارب، وحتى قبل أن نعتر على القارب الذي هربنا به، لم يتعرف أحدنا على الأخر، وكنا نقضي معظم الوقت في صمت، نتأمل بعضنا البعض، ونتبادل الابتسامات البائِسَة، أو نتبادل الطعام والماء حين كان عندنا، جميعنا كان صامت غارق في أفكاره الخاصة، ولا يتكلم أحدنا إلا حين يريد قول أمر مهم، مثل: لنذهب من هنا، أو هل أنت بخير، وما أل لذلك..
فيما اجتمعنا على شكل حلقة حول بعضنا منتظرين كلمات قائدنا، والذي كان شاب طويل القامة، بعيون سوداء واسعة وبشرة أقلّ سمرة منا جميعًا، ورأس حليق-فقد كان حريصًا جدًا على حلق شعره وذقنه طوال الوقت بأي أداة حادة تقع تحت يده، قال لنا أخيرًا:

" حسنًا، لم يتبقى وقت طويل على شروق الشمس.. لدا أري بأنه.. من الأفضل لنا.. أن نختبئ في احد المنازل.. واسمعوا .. أعرف بأننا لم نأتي هنا لتعرض لأحد.. وهي ليست من شيمنا على كل حال.. تعرفون ذلك.. لكن.. يا إما أن نعثر لنا على مكان أمنّ.. أو.. أو أن نقتحم منزلًا من منازل هذه المدينة ونختبئ فيه.. حتى لو اطرينا لقتل أصحابها.. فانتم تعلمون ماذا سيحل بنا لو قُبِض علينا.."

سكت الشاب، واخد نفسًا طويلًا، لا شك في انه قد أرهق جراء القاءه لهذا الخطاب الذي أثر في نفوسنا، فقد كان ذلك الخطاب حتى الأن، هو أطول ما قيل منذ اليوم الذي التقينا فيه. أخذ الاخرين يومئون برؤوسهم موافقين له، فجميعنا يعلم بأن ما قاله صحيح، لدينا فرصة واحدة للاختباء هُنا حتى لا يصلنا أحد، ولا نريد أن تضيع بعد كل ما مررنا به.. وهكذا إذن، اخدنا نمشي معًا نحو المدينة.
اضواء الغسق البعيد مشرفة، وشوارع المدينة مظلمة.. انقسمنا لمجموعتين في محاولة منا لتخفي؛ كي لا يلاحظ احدًا وجودنا، رغم أننا لم نصادف منذ ساعة وصلنا أية مخلوق حي.. كنا نحاول العثور لنا على مكان، وكانت معظم المنازل مغلقة النوافذ ومظلمة ومحاطة بأسوار عالية وأبواب ذات أقفال حديدية مِما يعني أن فرصتنا في اقتحام أي منزل من هذه المنازل تبدو ضئيلة جدًا. لقد دخلنا من بين الكثير من الشوارع الصغيرة، وسرنا في طرق ترابية طويلة، وطرق غير مكتملة، وصادفنا أراضي متروكة مليئة بالأعشاب البرية، وبعد أن قطعنا شوطًا لا بأس به في اغوار المدينة والتي بدتّ لنا بأنها ليست أكثر من بلدة ساحلية صغيرة فقيرة، من تلك البلدات التي يعيش فيها الناس في سلام وسكينة منعزلين عن العالم الخارجي، اخيرًا، اشارت احدى الشابات اللواتي كنا معنا إلى بوابة منزل ما، واشارات لنا بيدها بأن نقترب نحوها، فسرنا إليها جميعًا.
كانت البوابة نصف مفتوحة، ربما نساها أصحاب المنزل.. وتطل على حديقة واسِعَة، وخلفها باب المنزل الخشبي.. يتكون من طابقين، لا شك في انه بناء حديث، هكذا فكرنا من رؤية الطلاء اللامع وعدة البناء المنتشرة في الأرجاء. وبعدها قررنا أن نفعل ذلك..
 انتشرنا جميعًا حول حديقة المنزل واختباءنا فيها جيدًا، وكنا على استعداد للهروب في حالة فشل الخطة، رنتّ الشابة ذاتها التي عثرت على المنزل برفقة قائِدنا على جرس الباب...
انتظرنا بضع دقائق، شاهدنا انوار المنزل تُضِيء، وصوت وقع اقدام، ورأينا احدهم يطل مرارًا من النافدة، لا شك بأن أصحاب المنزل الأن مذعورين، منّ الذي يطرق باب بيتهم في مثل هذا الوقت المتأخر، لا شك في انهم خائفون أكثر منا.
سمعنا صوت قريب، لا بد وانهم يتشاورون، لكننا بالكاد كنا نفقه اللغة التي يتكلمون بها. رأينا امرأه تطل من النافدة، ورأس رجل منفوخ الوجنتين يطل ببطء ثم يختفي ويواصل الكلام. بدأت الشابة بقرع الباب بصخب وهي تقول " نحتاج لمساعدة." لكننا كنا نعلم أيضا بأنهما لن يفهما لغتنا، وبعد أن واصلت القرع ورن الجرس لبضع دقائق رأينا الرجل يفتح الباب وهو يحمل في احد يداه سلاحٌ ناري، ويواصل الكلام بصوت صارم.
اشارت له الفتاة بحركات يدها أنها ترغب في الماء، وبقى الرجل يحدق بحيرة واستغراب، فيما ظهرت امرأة شديدة النحافة والطول من خلفه والدهشة على وجهها وبقت تحدق في الشابة والقائد وفي ملابسهما المتأكلة والقديمة باشمئزاز واضح، وكانت تخاطب الرجل بينما واصلت صديقتنا الشابة اشارات يداها، وبدت تقول له بلغتنا التي لن يفهموها: " نحتاج إلى ماء، إلي أكل؟"
قالت المرأة للرجل كلمات ثم اشارت له بيدها بأن يطردهما.
ولكن يبدو بأن الرجل قد اعترضها، فاختفت المرأة بسرعة في أعماق المنزل، فيما ظلا الرجل يحدق بالشابة والقائد، لم نعرف ما الذي كان يخططان له، لكن في تلك اللحظة، وفيما كان ذلك الرجل لا يزال واقف هناك يحدق بشفقة نحوهما، كما لو انه يحدق بقطة شارع جائعة تنتظر أن يترك لها فضلة.. قامت الشابة بحركة سريعة، ضربت مؤخرة رأس الرجل، وقامت بلف رقبته بحركة خبيرة، فوقع على الأرض. سحبت سلاحه بعد ذلك.. يبدو بأن ذلك كلفها الكثير من التركيز، فقد نفدت الأمر بسرعة وكذلك ظهر على وجهها الأسمر علامات الخوف والعرق.
تبادلت نظرة مع القائد ثم أشاروا لنا بالخروج، وهكذا اقتحمنا المنزل سويا.
دخلنا المنزل بحذر، كان الباب يأخذ لصالة واسعة، وعلى اليسار ممر طويل، كانت تصدر منه أصوات حركة، لمحنا في نهايته أنوار. اقتربت الشابة والقائد ، حيث رأينا بابًا مضيء في نهاية الممر، التصقا بالحائط بخفة، فقد كان لون بشرتنا السمراء يساعدنا على التخفي في الظلام بسهولة، وحين كانت المرأة خارجة من ذلك الباب، حاملة معها كيسًا بلاستيكي وزجاجة ماء. مسك بها القائد واضعًا يده على فمها كي لا تصرخ، وقام بلكم رأسها بعنف شديد نحو الحائط، وأعاد ذلك عدة مرات حتى انفجرت الدماء، وسقط الكيس وزجاجة الماء من يدها أرضًا، وانطبعت لطخة دم كبيرة على الجدار، فيما تراجعت هي عدة خطوات للخلف، بعد أن تركها القائد، ثم وقعت على الأرض ممددة..
انتشرنا في غرف المنزل بسرعة، لنتأكد من عدم وجود شخص أخر معهما، قبل أنّ يصرخ أحد افراد مجموعتنا الذين صعدوا الطابق العلوي قائلًا: " اللعنة!"
اسرعتُ مع الاخرين للأعلى، لنتفاجأ بوجود طفل رضيع في مهده. كان نائِمًا، وتفوح منه رائحة الاطفال، رائحة الصابون ممزوجة برائحة الحليب والحفاظات القذرة.
قال قائدنا: "أنا أسف، لكن يجب أن نتخلص منه هو أيضًا."
" أرجوك لا." عارضته احدى الفتيات- ربما تكون اصغر الموجودات معنا- وبادلته نظرة جادة، وأضافت: " سأعتني به.. أنا."
 " هاه! حسنًا، لا بأس." ردّ القائِد.

سألتُهم حينها:" بجثة الرجل.. والمرأة.. ماذا سنفعل؟"

*

احكمنا إغلاق الأبواب، وفتشنا المنزل جيدًا قبل أن نشرع بفعل أي شيء أخر.. كان كبير بالنسبة لمسكن يقطن فيه زوجان مع طفل رضيع. في الطابق السفلي، هناك صالة شاسعة، وحمامان، وغرفتان كبيرتان، احدهما كانت فارغة، وفي الطابق الثاني، كانت هناك ثلاث غرف نوم، مما أثار تسؤلنا، فهذا يعني أن للزواجين ابن اخر غير الرضيع، أو قريب يسكن معهما.. وهذا يعني أيضًا بأنه قد يأتي في أي وقت الأنّ، ربما يبيت في الخارج هذه الليلة، ربما يعود في الصباح. لكننا فكرنا بهدوء عما يجب أن نفعل حيال ذلك، فما كان يشغل بالنا حقًا في ذلك الوقت هو الأكل.
كنا جميعًا في حالة مزرية نتيجة ما مررنا به، لقد بحثنا عن كل ما يؤكل وافرغنا الثلاجة، وتقاسمنا الطعام. وبعد أنّ سددنا جوعنا، تزاحمنا على دورة المياه، كانت رائحة العرق، ورائحة القئ، ورطوبة البحر تنبعث منا.. كنت اشعر بتلك الرغبة في الاستلقاء تحت الماء لساعات طويلة، لكن الجميع كان يرغب بذلك أيضًا، لهذا كان عليّ أن اسرع في الاستحمام، لأسمح لغيري بنيل هذه المتعة.. وهكذا استحممنا واحدًا، واحدًا، واخدنا نبحث عما يلائمنا من ملابس في خزاية الرجل والمرأة. فلبسنا ثياب أهل المنزل، وجد كل واحد منا ما يناسبه، وتحول المنزل المرتب إلى فوضى عارمة في غضون ساعات قليلة، تخلصنا من ثيابنا البالية والقذرة في اكساس قمامة، كان ذلك اعظم شعور احسست به منذ لحظة وصولي، هو النظافة.
بحثنا لنا عن اغطية في خزنات الغرف، وقمنا بتفريش أرضية الصالة في الطابق السفلي.. كانت تبدو لنا المكان الوحيد المناسب لنا لنجتمع فيه ونجلس معًا للراحة فاستلقينا جميعنا على الأرض تحت الاغطية الدافئة، وكنت أشعر بحركة البحر لا تزال تداعب جسدي الهزيل، فحين أفكر في كل تلك المدة التي قضيناها في البحر، احسب بأن ما أنا فيه الأن حُلم وبأني لازلت عالق في ذلك القارب.. مازال صوت أمواج البحر يرنّ داخل رأسي، مع ذلك كنت أحاول أن اشعر بالغطاء فوقي وبالأخرين من حولي.
كنا لا نزال نتبادل الصمت حتى تلك اللحظة في الظلام، فمنذ اليوم الذي اجتمعنا فيه، لم نجلس ولو مرة وحدة مرتاحين في سكون وهدوء كما نفعل الأن، ولهذا السبب قالت احدى الفتيات وكأنها كانت تقرأ افكاري: " من الغريب أننا معًا منذ فترة.. لا بأس بها.. ولم نتعرف بعد..."
اكتفينا بتبادل الابتسامات. وحينها قال القائد: " أسمى هو.. هههه" واخذ يضحك بشدة كما لو أنه يبحث عن حجة ليطلق العنان لتلك الضحكات السجينة في داخله.
فسألته الفتاة بجدية: " أسمك.. ضحكة؟"
فقال لها بثقة: " على الأرجح!."
 فأخدت تضحك هي الأخرى، حتى شعرنا جميعًا برغبة في مشاركتهما الضحك. وقال احد الشباب، وقد كان اقصرنا قامة: " أسمعوا، اقترح أن نتوقف عن المزاج ونتعارف.." ألتقط نفسًا ثم واصل كلامه:  "أسمي هو عقرب!"
قال القائد: "وأنا أسمي أحمر!"
قالت الشابة التي عثرت على المنزل أول مرة: "نادوني بأقحوان.."
وقالت الفتاة التي قررت الاعتناء بطفل الزوجان الصغير: " أسمي هو صفَّار"
كشف كل شخص مِنا على أسمه، إلى أن جاء دوري ولفظتُ أسمي الذي كنت انطقه للمرة الأولى مُنذ وقت طويل: " أبيض.." ورددت ساخرًا:  "أبيض كما الحليب!" فقد كُنت اشدهم سمرة.
اخدنا نتبادل الأحاديث فيما بيننا. كنت أنسي من حين لأخر في هذه الأجواء موقفنا وبأننا في منزل غريب في بلدة غريبة، ولكن احدًا منا لم يرغب في الحديث عما جرى قبل أن نجتمع، ولا عن رحلة البحر، ولا تذكر الماضي.
 نام بعضنا، وبعضنا بقى في الطابق العلوي يراقب الشارع في حالة تيقظ تام حتى شروق الشمس. وحين استيقظت الدفعة الأولى مع انتصاف الشمس في السماء، نامت المجموعة الثانية.
كنت قد استيقظت مع المجموعة الثانية، ورأيت أقحوان برفقة شابة أخرى تنظف بقعة الدم الكبيرة التي تركها رأس المرأة على الحائط، واخبرتني بأنهم قد عثروا في غرفة الخزينة على بعض الصناديق والمعلبات الغذائية. كان هناك أصناف مختلفة، الحليب، والمعكرونة، والعصائر، ومعلبات الفواكه والبازيلاء والفول والسردين، وكانت تلك هي السعادة الحقيقة بالنسبة لمعظمنا، إذ أن هذا يعني بأن هناك ما يكفينا لأيام أخرى لو حافظنا بشكل جيد على الأكل.
اقترحت أن ندفن الزوجان في حديقة المنزل، ابقينا على جثتهما ملفوفتان بغطاء في الغرفة الفارغة، كانت الرائحة الكريهة قد بدأت تنفد منهما، وشحب لونهما، فنقلنهما للخارج، واندفع الرجال للحديقة وبدوءا الحفر
اعتنت صفار بالصغير، حتى انها قامت بتحضير الحليب له، وضعته على ظهره وطبطبت عليه حتى أصدر أصوات قرقعة وتجشئ، وغيرت حفاظاته وهي في حالة من الابتهاج والفرح. كانت تلهوا معه وتغني له، وتقول له بصوت حنون: " ما هو اسمك أيها البطل الصغير."
انتشرنا في المنزل خلال المساء، فيما أخذ بعضنا يقلب قنوات التلفزيون ويبحث عن التسلية، والبعض يحضر الطعام، وكنت من الأشخاص الذين اختاروا البقاء للمراقبة في الطابق العلوي، حيث بقيت معظم الساعات المتبقية من المساء مستلقي على السرير في غرفة الشاب المجهول، أحاول الشعور بالاسترخاء.




عقرب:

رنّ هاتف محمول في غرفة الزوجان لساعات طويلة قبل أن أكتشف وجوده بالصدفة بعد غروب الشمس. كنت اتجول في الطابق العلوي وافكر في البحث عن قميص أخر يناسبني. قمتُ بتهشيم الهاتف فور أن عثرت عليه رغم أنها المرة الأولى التي امسك فيها هاتف محمولًا في حياتي كلها، لكن كنت قد شاهدتُ من قبل هذه الهواتف وأعرف جيدًا فيما تستخدم.
قال رفيقي أحمر بنبرات متشككة: " عدم اجابتنا على الخط سيدعو احدهم للاعتقاد بأن مكروه قد حدث للزوجان! ربما يأتي احدهم الأن.. ماذا تظن انك فاعل؟"
رددت عليه: "في كل الأحوال.. سيأتي احدهم.. عاجلًا أم اجلًا."
 تركنا بقايا حُطام الهاتف على أرضية الغرفة وخرجنا، كنت أعلم بأن الأمور لن تسير على ما يرام، كنت أضع خططًا وتخيلات لما سيحدث طوال الوقت.. لكنها كانت مسألة وقت لا غير.

أحمر:

 كنت أخفى قلقي عن الجميع، كانوا جميعًا يثقون بي، ويشعرون بالامان لوجودي معهم، حاولت أن اتظاهر بالشجاعة، لكن الأمر كان صعب، أن تتظاهر طوال الوقت بشيء أنت لست عليه. في وقت متأخر من الليل، بينما كنت اجلس في الصالة أفكر في خطة لفعل شيء ما، حدث ما كنت اخشاه.
سمعنا صوت جرس الباب الخارجي، رن مرتين، ثم ثلاثة، ثم واصل بلا انقطاع بشكل مزعج. أسرعتُ وبعض الرجال لتفقد النافدة بخفاء، رأينا شابًا فازع الطول والجسد يقف عند الباب وعلامات القلق والغضب تظهر على وجهه، فكرت لابد وانه صاحب الغرفة الثالثة!
طلبت من الجميع أن يختبئوا، وقلت لهم بأن عندي خطة محكمة وعليهم البقاء متخفين إلا حين اشارتي.
 قمتُ بفتح باب المنزل الداخلي وتركته نصف مفتوح، ثم فتحت الباب الخارجي من خلال القفل الكهربائي وتركت الشاب يدخل إلينا. اندفع الشاب نحو الداخل بخطوات سريعة جدًا، من دون أن يلاحظ أي تغيرات في الحديقة، ودفع باب المنزل بعنفوان، وبدأ يتكلم بصخب واحتقان. لكنه بعد أن دفع الباب توقف، لاحظ بأن المنزل مظلم.. وبدأ ينادي بصوت عالي.
حرك يده ليبحث عن مفتاح النور، وفي تلك اللحظة خرجتُ من خلفه، ومسكت به. لكن حركة الشاب كانت سريعة، فقد تمكن بأطراف أصابعه من كبس مفتاح النور، وهو تحت قبضتي، وحاول الدفاع عن نفسه فور أن شعر بذراعيّ تُحِطان بجسده، ودخلت معه في اشتباك عنيف.
 دفعني من خلفه، ولكمني على بطني، ورأسي. تراجعتُ قليلًا للخلف أتألم، بعدها عدتُ لأنقض على الشاب في هجوم مرتد، فأطحت به أرضًا، غير أنّ الشاب كان يبدو كما لو انه مستعد دائمًا للحركة التالية، خلص نفسه من قبضتي من جديد، وقلبني على ظهري فوق بساط الصالة، وارتمي فوقي وانهال عليّ باللكمات على وجهي.. حينها قفز عقرب خارجًا من مخبئه، وامسك بالشاب من ظهره، محاولًا دفعه بعيدًا عني، ولكن ذلك الشاب المسخوط، كان كالجنّ، قبل حتى أن يلتقط أنفاسه، ولمجرد أن شعر بقبضة عقرب على ظهره، وقف ودفع بنفسه وبجسد عقرب خلفا بقوة، حتى حاصره بالحائط وأوقعا كل شيء خلفهما، وضرب بمؤخرة راسه وجهة عقرب بشدة، حتى نزف أنفه وأصيب بالدوار فوقع على ركبتيه دائِخًا.
 حاولتُ الوقوف من جديد بعد أن التقطت أنفاسي واستجمعت قوتي، لكن الشاب انطلق يجري نحوي.. وحين كان على وشك الإطاحة بي من جديد، انطلقت رصاصة نحو صدر الشاب.
خرج الجميع في ذعر بعد صوت الرصاصة، وظهرت اقحوان من خلف الستار وهي تحمل السلاح الناري الذي اخدته من صاحب المنزل، وقالت بنبرة غاضبة: " ابن القحبة."

أقحوان:

 رحتُ افرغ طلقات السلاح على ذلك الشاب القذر، كما لو اني لستُ واثقة تمامًا من انه قد مات، إلى أنّ شاهدته يسقط بطوله على الأرض، ورأسه عند اقدام أحمر.
جرى الاخرون نحو احمر ليطمئنوا انه بخير، وانطلق الطفل الصغير في نوبة صراخ صاخبة على نحو يسبب الصُداع.
نظر احمر نحوي بعيون مفترسة بعد أن تمكن من الوقوف، وقال لي: " ما الذي فعلتيه!"
" كان على وشك قتلك!" اجابته ببرود.
تنهد احمر، ثم قال: " يجب أن نغادر هذا المنزل حلًا."
مرت لحظات من الصمت لم ينطق فيها احدًا بأية كلمة ولا حتى أنا.
وضع احمر يده على الشاب الواقع جنبه، وامسك بشيء ما، سلسلة معدنية أظن، كانت حول عنقه وقال: " إنه جندي!" ثم صرخ علينا من جديد: " هل سمعتموني! إنه جندي! جندي لعين!.. هل سمعتم! .. لا شك في أن شخص ما قد سمع صوت اطلاق النار، لا شك في أنّ شخص ما سيأتي بعد لحظات ..!"
كان احمر الوحيد فينا الذي يجيد القاء جمل طويلة من دون أن ينعقد لسانه، كنت احسده على ذلك. جعل الجميع يشعرون بأن ما فعلته لأجل إنقاذ حياته ما هو إلا مصيبة تسببت لهم فيها. كانوا جميعًا يحدقون بي كالبلهاء، لكني ما زلت أحمل السلاح في يدي ومازال بوسعي فعل شيء حيال ذلك، صفقت باب المنزل بقوة، ووقفت امامه، وقلت لهم: " لن يغادر أحدًا هذا المكان!"
نظر لي أحمر، وكذلك الاخرون، وقال لي:" ما الذي تحاولين فعله.. الأن.. هاه؟"
" سئمتُ من الهروب!" صرخت عليه. وأضافت: " حان الوقت لنتوقف عن الهروب ونقاتل لأجل  شيء ما!"
هزّ عقرب رأسه فيما كانت صفار تحاول تهدئيه الطفل الصغير الذي لم يتوقف لحظة عن الصراخ، وابتعدت به قليلًا عنا فيما كان أحمر يقف في مواجهتي.
قال أحمر:" سوف يأتون، يجب أنّ نهرب."
" لا يهمني.. هذا المنزل صار لنا وعلينا أن ندافع عن وجودنا فيه.. لماذا علينا دائمًا الهروب مثل الجردان الخائفة!.. إلى متى سنعيش هكذا، أخبرني.."
تحرك احمر نحوي، وكان واضحًا بانه على وشك افتعال شجار معي، وكنت اخافه وعليّ الاعتراف بذلك. لكني صوبت سلاحي نحوه وقلت بحزم: " إذ اقتربت من الباب سوف أطلق النار عليك!"
قال أحمر: " سوف نغادر.. جميعًا"
وواصل التقدم نحو الباب، لكني لم أكنّ أمزح بتاتًا، فلا أحد منا كان بوسعه تحمل المزاح في مثل هذا الموقف العصيب، شعرت بلسعة كهربائية تسري في جسدي حتى وصلت اصبعي، ومن دون تردد، ضغطتُ الزناد.. أطلقت النار نحو أحمر، لأثبت له بأني لم أكن امزح، فاستقرت الرصاصة في رأسه. شاهد الجميع رأسه الحليق ينفجر، شحبت وجوههم وعلت عليها علامات الخوف، وسيل من الدم انهمر من انف وعيون أحمر، قبل أن يقع جاثما على ركبتيه ويسقط أرضًا.

صفار:

ابتعدت بالطفل الرضيع حين بدأ بالصراخ، لم يكن عليّ الطفل الصغير أن يشاهد ذلك، أو أن يسمع صوت اطلاق النار أو الشجار. دخلت المطبخ وحاولت اسكاته بالمرضعة والهز، كان مازال بوسعي سمع أصوات كلمات تصدر عن الاخرين، مازالوا يتشاجرون، قبل أن اسمع صوت اطلاق نار أخر. فكرتّ ربما استيقظ ذلك الشاب من جديد، رغم اني رأيته بأم عيني يسقط ميتًا، ولم يخطر على بالي أن احدنا قتل أخر.
هرعت نحو الصالة لأرى ما كان يحدث، كان احمر واقعًا على الأرض، لجوار الشاب الميت ورأسه مفتت. لم يسبق أن رأيتُ ما هو ابشع من ذلك. اجتحتني رغبة في التقئ، وكان عليّ ان أكون اقوى لأجل الصغير الذي بين ذراعاي. شاهدتُ اقحوان واقفة عند باب المنزل تصيح: " هل هناك شخص أخر يريد الخروج!"
لفظت تلك الكلمات بجدية تامة، فهمت ما كان يحدث، نظرت نحو جثة احمر الراقدة أمامها وقالت بنبرة مجرم يحاول تبرير فعلته: " كان ليموت في كل الأحوال، فهو لم يشكرني لأني انقدتُ له حياته."
عوي صوت أنذرا سيارة أمن في الجوار. بامكاني التعرف على هذا الصوت فهي ليست المرة الأولى التي اسمعه. وقع قلبي بين اقدامي، لم تتحرك أقحوان من عند الباب وكذلك لم يتحرك احدًا اخر.
لم نفعل أي شيء لمدة العشر دقائق، أو ما يزيد.. خرس الطفل الصغير في حضني.. ولم يحدث أي شيء. لم يقرع أحدًا الباب، ولم يرنّ الجرس. عمّا الصمت من جديد، تحركت اقحوان بكل ثقة بعد أن احكمت اغلاق الباب وقالت بمرح هذه المرة: " لنجهز العشاء."

أبيض:

 كان هناك خوف سيطر على الجميع، كنت اشعر أيضًا بذلك الخوف، شيء جنوني قد حصل قبل قليل لكن كما جرتّ العادة، فلا أحد منا يريد الحديث عن ذلك الشيء، أيً يكنّ.. كما أن لا أحد منا يريد ذكر الأشخاص الذين ماتوا في القارب، ولا حتى قبل القارب، ضاع أحمر مثلهم في طيّ النسيان كما لو أنه لم يكنّ موجود معنا قدّ... وكانت تلك الليلة طويلة بحق، اذ لم يقترب أي احدًا منا من الجثتان، وبدًلا من الخلود للنوم في الصالة، تفرقنا حول المنزل. فيما أكلت اقحوان، وجبة العشاء بنهم شديد، وارتمت على الكنبة أمام التلفزيون، ورغم اننا لم نكن نفهم أي شيء يُقال من البرامج التي تعرض على القنوات، إلا انها أصرت على أنّ تضحك بصوت عالي كما لو أنها كانت تفهم كل حرف.
في وقت متأخر جدًا، وقبل طلوع الفجر، كنت قد قررت البقاء في غرفة الشاب مرة أخرى، تركت ستار النافدة مفتوح، ورقدت فوق السرير، فيما نامت صفار لجوار السرير بعد أن تركت الصغير في مهده، كنت أرى الخوف على وجهها، لكنها لم تتحدث إليّ، وضعت فراشها، وابتسمت لي، ثم قالت لي: " احلامًا سعيدة عزيزي."
فكرتُ، ربما اقحوان محقة، ربما علينا التوقف عن الهروب، ربما لا أحد يراقبنا لكننا نشعر بتلك العيون محاطة بننا طوال الوقت، فلا احد منا يتصرف بحرية، حتى في وحدتنا صرنا نشعر بتلك العيون مثل القيود الملفوفة حول رقابنا. ربما نحن من صنع تلك العيون، ربما نحن نهرب من انفسنا لكننا نعود إليها، ربما ما يرعبنا حقًا هو وجودنا مع بعضنا البعض.. فكرتُ مررًا تلك الليلة فيما جرى، ربما فكر الجميع بذلك أيضًا. في النهاية غفوت وانا مستغرق في تلك الأفكار.. استيقظت مرة واحدة للدورة المياه، وعدت للنوم، تخيلتُ بأنني سمعت صوتًا ما، كصوت اللوح يدق أو يكسر، قبل أن أفيق مذعور على صوت إطلاق نار قوي.
 أول ما خطر في بالي تلك اللحظة، هو أن اقحوان قد قتلت شخص أخر. لمحت صفار، نهضت منتفضة من مكانها هي الأخرى وحدقت نحوي.
رأينا عقرب يجري إلى الغرفة في فزع وصفق الباب خلفه بقوة، ثم شاهدنا رصاصات عديدة تخترق الباب وتصيبه بسرعة، لا يعقل بأن تكون تلك رصاصات أقحوان، فهي لا تمتلك كل هذه الذخيرة!
قال عقرب وهو يسقط: " عثروا.. علينا!"
اندفع الباب على وسعه، ودخل حشد من الرجال المسلحون، انهم رجال أمن!
 كنت اريد أن أقول شيئًا ما، لكن الرجال كانوا في حالة استعجال، اطلاق احدهم النار مباشرة نحو صفار التي كانت على وشك أن تقف لتهرب. وحين أشاروا بسلاحهم نحوي، كنت خائِف، غير مدرك لِما يجري، لم اتحرك، وبقيت في حالة من اللاوعي.
رأيت صفار وهي تتألم بفعل الرصاصات، اعادتني للواقع ونطق الرجال  بعض الكلمات، لم أكنّ افهم شيء مما يقولون.
فكرتُ في رفع يداي، ربما لو استسلمت لهم، لعلهم سيتركونني أعيش.
لكن فور أن حركت يداي، اخترقتني العديد من الرصاصات.
وكان ذلك أخر شيء أتذكره.

كنت واقعًا على السرير، اخرّ انفاسي الأخيرة.

تمت




الأربعاء، 31 مايو 2017

عالم ما بعد المطر- قصة قصيرة



"عالم ما بعد المطر"



(1)

كان صوت قطرات المطر كالصدى داخل رأس هوبيان، ما أن غفّى لحظة حتى بدأ ضجيج هطول المطر يقرع كالطبل من جديد. نهض منتفضًا من مكانه بعد أن وقعت دودة عُشب عملاقة فوق كثفه محاولة الالتفاف حول مرفقه.
 وتذكر فجاءة بأن المطر قد توقف.
بدأ كل ذلك قبل عشرات السنين، ربما مِئات السنين، قال لهم أحد كبار سكان القاع حيث يعيش هوبيان بأن المطر لم يتوقف يومًا عن التساقط، لا أحد يتذكر متى بدأت الامطار بالسقوط فهي موجودة منذ بداية الوجود. لكنها في إحدى المرات أمطرت في كل بقاع الأرض ولم تتوقف بعدها. استمرت لأسابيع، ولشهور ولسنوات؛ أخيرًا قرّر البشر بأنه لم يعد بوسعهم العيش معها وأن عليهم الفرار منها إلى قاع الأرض.
«ما هذا الشعاع؟»
 كانت  تلك أول كلمة ايقظت هوبيان في صباح اليوم الأول بعد توقف المطر.
«لا أدري.» قال ذلك وهو يهرع من سريره نحو الشعاع القادم من الثقوب الصغيرة الموجودة في سقيفة المختبر الذي يعمل ويعيش فيه مع رفيقه.
«هل سمعت هذا؟»
«ماذا؟»
انتظرا لحظة في صمت حاد ثم أضاف هوبيان قائلًا: «لا يوجد صوت.» وأضاف بعد ثانية: «لا يوجد صوت طبول قوية في الخارج، إن هذا الهدوء مرعب!»
«أجل! هذا ما أعنيه. لا يوجد أية أصوات إطلاقًا!»
خرج هوبيان مسرعًا هو ورفيقه وكان هناك حشد من سكان القاع، يتجولون داخل ممرات المسكن المظلم الذين يحتمون فيه من الامطار منذ يوم ولادتهم، ويوم ولادة ابائهم واجدادهم. لقد كان التفكير في العالم الخارجي يجسد رعبًا لهم جميعًا، وعبر ازمنة طويلة، كان هناك الكثير من الأشخاص الذين حاولوا الفرار إليه، وحاولوا أيضًا اكتشافه، لكن احدًا لم يفلح بالعودة من عالم المطر. ذلك العالم الخارجي حيث سطح الأرض، تقبع فيه المستنقعات الواسعة، والانهار الجارية، والحشرات العملاقة والنباتات السامة. فهذه المساكن والمختبرات الصغيرة الذين يحتمون في داخلها هي سبيلهم الوحيد ليحظوا بأشعة الشمس الصناعية، حيث يعملون ليلًا ونهارًا على تشغيلها وصيانتها؛ ليتمكنوا من زرع المحاصيل الصالحة للأكل والاستمرار بالعيش.
«هذا جنون. إن هذه الأشعة هي أشعة الشمس!» قال رجل عجوز قصير القامة.
«هذا لا يمكن! المطر يحجب الشمس منذ وقت طويل.» رد عليه عجوز أخر.
«أجل، لكني متأكد من ذلك. استمع لهذا الهدوء يا رجل!»
« الهدوء..»
كان هناك صوت ضجيج بكلمات تنتقل بين الناس من شخص لأخر، وهمهمات الذين مازالوا يتسألون عن تلك الأشعة، حتى صاح رفيق هوبيان أخيرًا: «أصمتوا من فضلكم.»
نظر الجميع نحو هوبيان ورفيقه.. وبعدها صمتوا.
كان الهدوء يحمل نكهة حامضة.. كان مرعبًا وأصاب الجميع بالتوتر، رغم ذلك كانوا جميعًا يحاولون الحفاظ على انفعالهم وقلقهم لينصتوا جيدًا لذلك الهدوء الذي سكن فوقهم.
«الهدوء.. إن هذا الهدوء غريب.. يجب أن يذهب أحدهم إلى الخارج، لنتأكد بأن مصدر هذه الأشعة هي الشمس فعلًا.» قال العجوز القصير.
«هل توقفت المطر حقًا؟» قال رجل من الحشد.
فرد العجوز القصير: «يجب أن نخرج لنكتشف ذلك!»
قالت إحدى النساء: «ومن المجنون الذي سيخرج إلى عالم المطر الخارجي؟»
«لكن صوت المطر اختفى.» همست أخرى.
«هذا لا يمكن أن يحدث أبدًا.»
وصاح أخر: «المطر لا يتوقف.. نحن نموت وهو لا يتوقف!»
«ماذا عن الشمس؟»
استمرت تلك التساؤلات حتى اقترب هوبيان من العجوز القصير وسأله: «هذه الاشعة ليس بوسعها قتلي صحيح؟»
نظر العجوز بارتياب لصديقه الأخر وقال: «بالطبع.. أشعة الشمس لا يمكنها أن تصيب احدًا بضرر مادام يرتدي القناع الواقي إلا إذا تعرض لها بشكل مباشر ونظر نحوها لوقت طويل.»
قال هوبيان: «إذا سوف أخذ إذنًا من المجلس الأعلى بالخروج لأعرف مصدر هذه الاشعة.»
نظر نحو الحشود المجتمعة حوله وقال من جديد: «هل يريد احدًا المجيء معي!»
عادت أصوت الهمسات والهمهمات تعلو وتنخفض من جديد.

(2) 

مشى هوبيان فوق الأرض الطينية الزلقة بحذر، كان يمشي وينتظر بترقب وقوع مصيبة كبرى. في البداية كان منزعجًا من كثرة الأعشاب التي تلف كل شيء من حوله تقريبًا، والحشائش الكثيرة التي تنمو بعشوائية في كل بقعة، وتتدلى من كل شجرة لتغطي طريقه. لكنه اكتشف بعد عدة محاولات من قطعها، بأنها هشة للغاية، إنها فقط لا تتوقف عن النمو بسرعة من جديد. كانت الأشجار نفسها قابلة للكسر بسهولة. ما أن يمسك بغصن شجرة حتى ينفصل عن مكانه بين قبضته الصلبة.
ارتفع بقربه صوت طنين شديد القوة كان يزداد بشكل تدريجي، فبحث حوله بسرعة عن مصدر الصوت وأخد يجري منخفضًا ليختبئ خلف شجرة طويلة، عبرت جموع كبيرة من البعوض "ذو الرأس السهم" فوق رأسه وانغرست بالشجرة التي اهتزت راقصة وتسببت في تساقط قطرات المطر المتجمعة على اوراقها فوق رأسه المحمي بقناع التنفس، و سقط معها بعض البعوض الذي لم ينجو من الاصطدام بالشجرة. نظر هوبيان للبعوض الساقط بشفقة. كان مظهرها يبدو مخيفًا كما لو أنها سامة. لكنه سرعان ما أدرك بأن تلك المخلوقات ليست إلا ضحية اخرى لتوقف المطر، فكل شيء في العالم الخارجي كان هشّ من دونها.
«حسنًا عليّ المواصلة!»
قالها بصوت مسموع كما لو أنه كان يخاطب الشجرة التي احتمى خلفها. ومسك حقيبته بإحكام ومظلته، وواصل السير.
ردد بعض كلمات الأغاني القديمة التي حفظها حين كان يذهب للمدرسة القديمة، المكان الذي تعلم فيه القراءة والكِتابة. فسكان القاع يعلمون جميع أطفالهم القراءة والكِتابة عن طريق الغناء؛ كان ترديد تلك الأغاني لزمن طويل قد جعلها بالنسبة لهم مثل تراتيل نشيد ديني أو دعاء للصلاء لا يمكن أن يمر يومًا من دون أن يرددها احدًا منهم بشكل عفوي على لسانه. كان هوبيان، وعكس الكثير من التلامذة الصغار الذين في عمره، يحب تلك الأغاني بشدة وتعلمها بإتقان. وكان يقول بأنه يريد أن يصبح شاعرًا حين يكبر ليكتب الأغاني ويعلمها للأطفال، لكن هوبيان بطريقة ما غيّر مسار حلمه، وانتهى كمهندس صيانة لمولدات طاقة اشعة الشمس الصناعية وأصبح يقضي معظم وقته في قسم المختبرات. لم يسأل نفسه يومًا كيف انتهى به الحال هكذا، لكن كان يعلم دومًا بأن هناك ما ينتظره، ولم يعرف ماذا كان ذلك الشيء حتى شاهد أشعة الشمس في ذلك الصباح البعيد.

(3)

خرج فريق من المستكشفين الذي اختاره المجلس الأعلى من سكان القاع إلى السطح في نفس صباح اليوم الذي توقفت فيه المطر، وكان هوبيان قد حصل على إذن بالخروج معهم بعد جدال طويل إذ غالبًا لا يسمح للخروج إلا للأشخاص المجهزين جيدًا للإستكشاف، ولأن عدد لا بأس به من الرجال العاديين من أمثال هوبيان، رغبوا في الخروج أيضًا. حلم هوبيان بالخروج هناك منذ صغره، قيل له بأن والده خرج ذات مرة إلى المطر ولم يعد، ولم يعرف كثيرًا عن والده سوى الأحاديث القليلة التي كانت امه تخبره عنها، لكنه الآن قد حصل على تلك الفرصة التي انتظرها طويلًا، الأمر الوحيد المختلف الأن، هو أن هوبيان خرج إلى السطح بعد أن توقفت المطر.
بعد أن تجاوز الباب الرئيسي الذي يحمي مسكنهم تحت الأرض والمحمي جيدًا بالحديد والفولاذ الصلب، أسرع الرجال في حالة من الذهول بعد أن رأوا العالم الأخضر الفسيح من حولهم، العالم الذي غسلته الأمطار لمئات السنين، حتى شحب وذبل، والآن هو ناصع أخضر، وبراق.
«لا تبتعدوا عني.» قال قائد الفريق.
«انظروا، لا يوجد مطر!» هتف احدهم.
«لا أصدق. هل توقفت المطر فعلا؟»
«اسمعوا! أن هذه الاشعة تأتي من خلف تلك الأشجار. دعونا نقترب نحوها!»
تحرك الرجال معًا نحو مصدر الاشعة وكلما ابتعدوا عن الأشجار الكبيرة حتى ظهرت لهم السماء المضيئة، الساطعة. وسرعان ما احتمى أحد الرجال وقال بصوت صارخ: «انها تحرقني!»
«ابتعد عنها.» قال القائد.
احتموا جميعًا تحت ظلال الشجر، وكانوا يحاولون التحديق نحو السماء بجهد كبير، يسترقون النظرات، محتمين بأذرعهم ومظلاتهم.
قال رجل: «هل علينا العودة لإخبار الاخرين؟»
«أجل سوف نعود. لكن علينا أن نكتشف أولًا أين اختفت المطر.» رد هوبيان.
قال واحد أخر: «لا شك بانها توقفت، توقفت وحسب.»
«هذا لا يمكن يا رجل! إن المطر لا تتوقف هكذا وحسب! هل تعلم منذ متى وهي تمطر؟» رد عليه الرجل الأول.
«منذ مئات السنين، ولا بد أن هناك سببًا وراء ما يحدث.»
قال هوبيان لهم بصوت حازم: «من يريد العودة فليعد. أما أنا فسوف أبحث عن مصدر الشمس!»
«لا يمكنك أن تصل الشمس، أنها في السماء هناك ..أنظر!»
«أعلم ذلك لست بالأحمق. لكن يجب أن نكتشف لماذا ظهرت الآن.» قال هوبيان.
«سوف أعود، من يريد العودة؟»
رفع الرجال الثلاثة أياديهم مع القائد. وقال هوبيان: «ماذا جرى لكم! ألا يريد أحدًا منكم القدوم.»
«أسمع يا فتى، لا أحد سبق وأن عاد من العالم الخارجي، هل تعرف لم؟» قال القائد.
«لأن لا أحد يريد أن يعود إلى القاع بعد أن يكتشف هذا العالم الشاسع!» رد هوبيان.
«إطلاقًا، لكن لأن المكان هنا ليس أمنّ بما فيه الكفاية. ونحن لا نريد أن نخسر المزيد من الرجال. ألا يكفينا كم خسرنا؟ عليك أن تعود معنا الأن، وسوف نتشاور مع المجلس الأعلى حول الأمر، بعدها سوف نقرر العودة أم لا.»
نظر هوبيان إلى الرجال الثلاثة الذين معه وإلى القائد. كان الخوف باديًا على محياهم رغم رغبتهم الشديدة في اكتشاف العالم. وكانوا جميعاً لا يريدون من هوبيان أن يواصل المشي نحو الشمس لوحده. لكن هوبيان كان يحدق نحو أشعة الشمس المتسللة من خلف الأغصان، وكان يسأل نفسه بلا توقف «لماذا عادت؟»

(4)

لمح هوبيان بركة واسعة على بعد خطوات منه. كانت مهملة مثل باقي الأدغال المطرية. تقفز منها الضفادع المنتفخة، كانت متخمة بأكل البعوض والذباب الطنان؛ حتى يصعب على بعضها القفز نحو فريسته من شدة بدانتها. توقف هوبيان هناك يتأمل تلك الحيوانات الغريبة عن بعد.. وكان يفكر في اصطياد بعضها ليتأكد ما إذا كانت صالحة للأكل أم لا، بعد أن نفذت كل مؤونته ولم يتبق معه إلا قليلًا من البقوليات الجافة والتي لم تعد تكفيه ليشبع. نظر إلى الضفادع لبعض الوقت ثم قرر أن يواصل التقدم نحو البركة.
بعد أن مشى عدة خطوات نحو البركة، وضع يده فوق الانبوب الزجاجي على صدره الذي كان يحمل نبتة اللبلاب التي يستمد منها الاكسجين الطبيعي.
كانت الانابيب مزودة بالنباتات الطبيعية التي نمت بفضل أشعة الشمس، فبعد أن توقفت المطر بأيام، بدأت تخرج من الأرض تحت بقاع اشعة الشمس المتسربة من السقف، نباتات غريبة الشكل. كان الجميع مذهولًا من ظهورها، فهي لا تشبه النباتات العادية الذي يعيشون على أكلها من اشعة الشمس الصناعية والماء المعقم. لكنهم اكتشفوا بأن تلك النباتات ظهرت بفضل أشعة الشمس وأنها اعادت الهواء الطبيعي النقي إليهم من دون اللجوء إلى أجهزة التنفس الصناعي وهذا جعلهم يتأكدون بأن العالم القديم، بدأ يعود من جديد.
«قطرة .. قطرة .. هكذا بدأت تهطل .. أمطار الشتاء.. واقترب الحزن .. من عيناي..»
غنى هوبيان تلك الكلمات وهو يقترب أكثر وأكثر نحو البركة، ووقف أخيرًا لجوارها. أشتم رائحة الهواء الثقيل، وأستمع لطنين البعوض واليعسوب "الصياد" الصغير الذي كان يحاول الالتصاق بقناع هوبيان قبل أن يبدأ بالتلويح بيده ليطرده.
كان المكان غير صالح للحياة، فلون الماء العكر يميل للخضار والسواد. والحشرات تقفز خارج وداخل البركة. شعر هوبيان بقليل من الغثيان وهو يحدق بكل تلك الأشياء أسفل حذائه الملطخ بالطين وبقايا الحشائش والبعوض "ذو الوجه السهم". ثم فكر بالعودة ليبحث عن مكان اخر يشق منه طريقه نحو القمة، حيث تكون أقرب بقعة لأشعة الشمس.
ما إن استدار هوبيان وترك البركة خلفه، حتى جاء صوت هسيس قوي مع رفرفة عصافير فوقه.
نظر هوبيان نحو السماء ليراقب الطيور الضالة المحلقة بعيدًا. وبعد لحظة ظهر ظلًا أسود خلفه وانتفضت مياه البركة مرتعشة حتى لامسته.
كان ذلك الشيء الذي ظهر من البركة يختلف عن أي شيء أخر سبق وراه هوبيان منذ لحظة خروجه من القاع. لم يكن مثل الضفادع رغم تشبهه بها. ولم يكن مثل البعوض المجنون الذي يطير بلا وجهة.
التقط أنفاسه وحدق خلفًا من جديد في ذلك الشيء النابض خلفه. وحش عملاق، كتلة ضخمة من اللحم يكسوها الجلد الخشن المصبوغ بالرماد والخضرة وتنبعث منها رائحة كريهة، تشبه رائحة الخضروات المتعفنة والفطريات الطاعنة. كان رأسه يشبه التمساح، لكن جسده خليط بين الضفادع والتماسيح وربما افاعي الماء، مع كرة عملاقة فوق ظهره، جعل التحديق نحوها قلب هوبيان ينبض بسرعة شديدة. لا شك في أن ذلك الشيء كان يعيش في أعماق، أعماق، تلك البركة القذرة. اصدّر الوحش صوت هسيس مرتفع جعل القشعريرة تسري فوق لحم هوبيان الخائف كلسعات الكهرباء الخفيفة.
«مرحبًا!» قال هوبيان بمرح متصنع ومتردد.
فعاد الوحش ليصدر صوت الهسهسة المرعب، ففهم هوبيان بشكل مباشر بأن ذلك الشيء القذر لا يرحب به.
«رباه! »
اصابته الصدمة بالشلل فعجز عن التفكير للحظات، لكنه سرعان ما قفز يجري في الاتجاه المعاكس للبركة، ولسوء حظه بدأ ذلك المخلوق الهجين بالركض خلفه.
ركض هوبيان بكل جهده، وواصل الوحش الجري.
 في البداية كانت المسافة بينهما كبيرة، حتى فكر هوبيان بأن ذلك الوحش اللعين سوف يسأم بعد وقت ويعود ادراجه، لكن المفاجأة بأن سرعة الوحش ازدادت اضعافًا بعد مضي قليلًا من الوقت. لا شك بأنه كان ينتظر قدوم فريسة ليلتهمها. وفكر هوبيان أيضًا بأن ذلك الوحش نفسه سببًا مقنعا يجعل كل الرجال الذين يخرجون إلى عالم المطر لا يعودون.
تخلص هوبيان من حقيبة ظهره، فتركها تحلق خلفه لينقض عليها الوحش بكل قوته ويجعل امتعتها تتطاير متحطمة. لم يكن عند هوبيان الوقت ليقلق حول فقدانه لحقيبته لكنه كان متمسكًا بمظلته بكل قوته، فقد كان خوفه الأكبر في تلك اللحظة أن ينتهي به الأمر بين مخالب الوحش.
تعثر بجدر شجرة ضخم متربص امامه ووقع ارضًا، فقفز الوحش العملاق من فوقه ليصير أمامه مباشرة.
علا صوت فحيح وهسيس الوحش، وأصدر صوت مواء عالي فاحت منه الرائحة الكريهة من جديد. تراجع هوبيان إلى الخلف قليلًا وحاول الوقوف وهو يحمي بذراعه أنبوب الاكسجين خاصته الذي يحتوي نبات اللبلاب، لكن الوحش اندفع نحوه مثل الثور الذي ينقض على الراية الحمراء. للأسف لم يكن لهوبيان حظ الراية الحمراء التي ترتفع في اللحظة الاخيرة، فانقض عليه الوحش بكل قوته واصطدم بمعدته وشخر عليه بعنف شديد، فطار هوبيان كورقة يضربها الريح. ووقع ممتدا على طوله فوق حشائش أدغال المطر واستمع لصوت طنين الذباب والبعوض البعيد.
لقد انكسر أنبوب الاكسجين الذي يحمل نبات اللبلاب والذي يزوده بالهواء النقي.

(5)

تحت اشعة الشمس المتسللة من الثقوب في السقف لاحظ أحد الأطفال وهو يلعب وجود شيء غريب فحاول حفر المكان ليكتشف ذلك الشيء.
«تعالي وأنظري!»
نادى الطفل أمه، ومن ثم اجتمع عدد كبير من السكان حول اشعة الشمس المتسللة التي اعتادوا العيش معها خلال أيام قليلة بعد توقف المطر ليكتشفوا وجود نباتات جديدة نمت حديثًا على بقايا التراب الصالح وقال أحد الفلاحين: " هذه النباتات طبيعية! إنها أفضل بكثير حتى من النباتات التي نقوم بغرسها في الحقول.»
منحتهم تلك النباتات التي نمت تحت أشعة الشمس، الاكسجين أفضل من أي جهاز تنفس اصطناعي سبق واستعملوه. كان هوبيان هو أول من اخترع الانبوب الذي احتوى نبتة اللبلاب حين رفض المجلس السماح له بالخروج إلى العالم الخارجي مرة أخرى. ولم تمض أيام عديدة، قبل أن يبدأ جميع سكان القاع بالمرض جراء تلك التغيرات البيئية غير المتوقعة.
كان رفيق هوبيان واحد من الأشخاص الذين تعرضوا لتلك الامراض الغريبة التي بدأت تنتشر بينهم، وكان أحد الأشخاص الأكثر الحاحًا بمطالبة الخروج للعالم الخارجي كما هوبيان.
لم يكن جميع سكان القاع يرغبون في الخروج، غالبًا بسبب خوفهم من الشحوب الذي يلفح العالم الخارجي، فحين كانت الامطار لا تتوقف كان السير تحتها لساعات يبدو كجحيم لا يحتمل، لكن لا شيء يبرر خوفهم الآن بعد أن توقفت المطر.
الأمور ازدادت تعقيدًا بعد أن بدأ المرضى بالموت واحدًا تلوى الأخر، وانتشر المرض بين الرجال والنساء أيضًا. حاول الجميع بذل قصار جهدهم لمعرفة الأسباب وانقاذ ما يمكن أنقاذه، لكن في غضون شهور قليلة، لم يتبقى من سكان القاع إلا عدد لا يتجاوز أصابع اليدان مجتمعتان.
حينها عرف الباقون منهم بأن ما يجب أن يفعلوه الآن، هو الخروج إلى السطح. حيث كانوا يأملونّ بأن يجدوا الحياة الجديدة التي تنتظرهم هناك، حتى يتأكدوا بأن العالم القديم-عالم ما قبل المطر-بدأ يناديهم من جديد، وعليهم الخروج من جحورهم المظلمة.
لكن احدًا منهم لم ينجو، ولم يبقى لهوبيان، إلا نبات اللبلاب وقناعه الذي يتنفس به.

(6)

كان صوت قطرات المطر كالصدى داخل رأس هوبيان، ما أن غفى لحظة حتى بدأ ضجيج هطول المطر يقرع كالطبل من جديد. نهض منتفضًا من مكانه بعد أن وقعت دودة عُشب عملاقة فوق كثفه محاولة الالتفاف حول مرفقه. 
وتذكر فجاءة بأن المطر قد توقف.
تذكر هوبيان الآن كل شيء، لا أحد هناك في القاع ينتظره، وأن الجميع قد فارق الحياة. وتذكر أيضًا، بأنه الأن وهو طريح الأرض، بسبب ذلك الوحش الذي ظهر له من العدم، بأن الأنبوب الذي يحمل نبات اللبلاب-رفيقه الوحيد-قد تحطم.
«لن أسمح بحصول ذلك!»
قالها بصوت صاخب مرتفع وهو ينهض، ومسك بمظلته الذي كان يحتمي بها من أشعة الشمس، وحاول استعمالها كمسند للوقوف. نظر صوب الوحش بنظرات ملتهبة من خلف القناع. لم تعد هناك حاجة للإحتماء بالقناع سوى من أشعة الشمس القاسية التي تلوح من الأفق البعيد.
أعاد الوحش شخيره العالي الذي دفع بالطيور للنحيب والهرب. 
وقف هوبيان وهو يحاول أن يجمع أنفاسه، فهرع الوحش صوبه من جديد مسرعًا، وحين أوشك على الاقتراب من هوبيان، نفثت من كرته الموجودة فوق ظهره، مادة لزجة اندفعت منه كالبصاق، ففتح هوبيان مظلته بسرعة ليحتمي بها، فاحترق قماشها وتلاشى بطريقة اثارت فيه الذعر.
شعر للحظات بانه سيعود للجري، لكنه فكر من جديد، مازال لديه سلاحًا أخير، فسحب قماشة المظلة ونزعها بعيدًا، ليخرج من تحتها عصا طويلة، سحب غطاء العصا ليخرج من تحتها سيفًا حادًا طويلًا، كان يحتفظ به لمثل هذه اللحظات، لكنه لم يتصور بأنه سيلجأ إليه في النهاية.
وقف هوبيان استعدادًا لمواجهة الوحش، فهو رغم كل شيء، لم يسبق له في حياته أن استعمل هذا السيف في معركة حقيقة. كانت كل مظلات المستكشفين تزود بمثل هذه الأسلحة، فعادة لا أحد يخرج إلى عالم المطر من دون التدريب الجاد والتمارين القاسية، وفرصة هوبيان بالخروج إلى العالم الخارجي من دون أي تدريبات حقيقية جعلته الآن يشك في قدرته على استعمال السيف.
 هكذا إذن تحرك نحو الوحش من دون خوف وهو يفكر في كل شيء قد خسره حتى هذه اللحظة، وكل الذين ماتوا من سكان القاع، وفكر بأنه لم يعد لديه ما يخسره لذلك سيفعل المستحيل للتغلب على الوحش. وجرى بخفه وقوة، وراح يلوح بالسيف عاليًا وهو يقفز طائرًا نحو السماء، لينقض بعدها مباشرة فوق كرة الوحش العملاقة.
قطعها بالسيف بحركة واحدة.
لكن الوحش ثار من جديد، ليجد هوبيان نفسه يتعرض إلى نطحة قوية أخرى على معدته، وشاهد سيفه ينكسر إلى قطع صغيرة كما انكسرت أحلام سكان القاع عند عودة المطر، كل شيء كان يحلق بعيدًا عنه، سيفه وحياته، جعلته الصدمة يفقد توازنه من جديد ويقع أرضًا. فكر أخيرًا كم من الأشخاص قد فقدوا حياتهم جراء مثل هذا النزاع، هل حقًا مات كل الأشخاص الذين خرجوا إلى عالم المطر، ألم ينجو منهم شخصًا واحدًا، واحدًا فقط؟
نهض هوبيان على ركبته بصعوبة وهو يحملق بالوحش امامه ويبحث عن خطة ليتجنب الاشتباك معه من جديد.
تحول وجه الوحش الغاضب إلى تعابير أكثر قسوة، وأكثر رعبًا. كانت عيناه الآن سوداتان بالكامل، ورائحته ازدادت سوءًا بعد أن فقد الكرة. لم يكنّ يبدو واضحًا أن هناك فرصة حقيقة لهوبيان بالنجاة لكنه بقي يرمي قطع الحجارة الصغيرة المتناثرة أرضًا على الوحش حتى يبقيه منشغلًا.
تراجع هوبيان إلى الخلف، أكثر وأكثر.
ازدادت الآن أشعة الشمس من فوقه واكتشف هوبيان، بأنه قد اقترب من القمة، اقترب من الحافة حيث لا أشجار تحجب الشمس.
وحين اندفع الوحش اخيرًا نحو هوبيان ليفترسه، احتمى هوبيان بكل ما اوتى من قوة. فيما وقف الوحش بكامل جسده فوقه، كان هوبيان يدافع عن نفسه متشبثا بالحياة، وينتظر تلك المعجزة، لكنها جاءت حين سطعت الشمس من خلفه بقوة، جعلت الوحش التعيس يصدر صوت هسيس منقطع الأنفاس وأنين ألم ضعيف.
استغل هوبيان تلك الفرصة ليقوم بركل الوحش بقوة وعنفوان، فحلق الوحش عاليًا، لم يكن يعرف أن كان ذلك بسبب اشعة الشمس أو بسبب الكرة التي قطعها عن ظهره، لكن الوحش سقط من حافة الجرف، وجذب هوبيان معه.. لولا أنه تمسك بسرعة بالصخور الكبيرة وبقي معلقًا في الهواء ويلتقط أنفاسه.
سقط الوحش من الحافة ليلقي حتفه.
حاول هوبيان أن يرفع جسده عاليًا بصعوبة، متسلقًا الحافة ليعود إلى السطح.
كانت اشعة الشمس حارقة، وكان وجه هوبيان قد أشتعل بالحرارة تحت القناع، فما أن استعاد توازنه وصعد إلى الأعلى حتى رمى قناعه بعيدًا والتفت خلفًا نحو اشعة الشمس.
كان ذلك هو الشيء الوحيد الذي لن ينسى هوبيان رؤيته طوال الثلاثين سنة القادمة التي سيعيشها. كانت اللحظة الذي شاهد فيها ذلك العالم الشاسع خلف الحافة، والشمس في منتصف السماء عالية، شامخة، تضئ العالم بأسره، ورأي انعكاسها أسفلًا فوق البحر الحقيقي الذي يراه للمرة الأولى. عرف حينها، بأنه قد عاش طوال حياته مثل بقية سكان القاع محاصرين بالمطر، ولم يدركوا إلا بعد أن خسروا كل شيء، بأن رعبهم من مواجهة المطر جعلهم يعيشون سجناء لذلك الخوف ويفقدون قدرتهم على التأقلم مع الطبيعة التي لم يعرفوا عنها شيئًا سوى أنها أخذت منهم حياة الكثيرين، ولأن سكان العالم القديم فروا منها. 
كانت رؤية العالم الخارجي هي ما جعل هوبيان، يؤمن بأنه سوف يجد اخرين مثله، وبأن سكان القاع ليسوا إلا جزء صغيرًا من عالم كبير عليه أن يكتشفه. ولم يكن اكتشاف ذلك العالم ليكون ممتعًا لو أن هوبيان بقي ضحية لتلك المخاوف التي توارثها من جميع الذين كانوا من قبله، ولولا ايمانه بأن الشمس سوف تنقذه.
كان هناك عالمًا كبيراً، قال هوبيان ذلك وابتسم ابتسامة عريضة غطت وجهه، وقال أيضًا، وهناك عالم ما بعد المطر وعليّ المضي لأجله.
وكان غروب الشمس هو أجمل ما تذكره هوبيان عن ذلك اليوم لبقية حياته.

تمت.